"نظم الحماية الاجتماعية".. خطوة أولى لمكافحة اللامساواة وضمان الحق في التنمية
ضمن أعمال الدورة الـ54 لمجلس حقوق الإنسان بجنيف
طالب عدد من خبراء حقوق الإنسان الذين عينتهم الأمم المتحدة، بمعالجة أوجه اللامساواة المتزايدة داخل الدول وفيما بينها عن طريق نظم الحماية الاجتماعية للجميع، باعتبارها حقا أساسيا من حقوق الإنسان بناء على مبدأ تكافؤ الفرص في التنمية.
جاء ذلك في دراسة جرى تقديمها ضمن أعمال الدورة الـ54 لمجلس حقوق الإنسان المنعقدة خلال الفترة من 11 سبتمبر إلى 6 أكتوبر 2023.
ورأت الدراسة التي جاءت تحت عنوان "عدم المساواة والحماية الاجتماعية والحق في التنمية"، والتي أعَّدتها آلية الخبراء المعنية بالحق في التنمية، أنه بينما يستمر العالم في مواجهة عواقب جائحة "كورونا" التي تبدو وكأنها بلا نهاية فإن أحد الآثار الملحوظة للجائحة هو الزيادة القائمة في مستويات اللامساواة سواء من حيث الحجم أو تسارع الوتيرة.
وأشارت الدراسة إلى العديد من تقارير الأمم المتحدة التي كشفت حدوث تحول تاريخي في توزيع الثروة، وزيادة في تواتر وشدة الكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ، وزيادة في التجاذبات السياسية والصراعات، وهي كلها عوامل أدت بدورها إلى اشتداد حدة اللامساواة في الحصول على الموارد، بما في ذلك الرعاية الصحية والغذاء ومياه الشرب المأمونة والسكن والدخل والرفاه العام.
تهديدات جديدة لحقوق الإنسان
وشدد الخبراء على أن تفاقم اللامساواة لا يزال يمثل عقبة رئيسية أمام تحقيق الطموحات المتفق عليها عالميا في إطار خطة التنمية المستدامة 2030، والوعد بعدم ترك أحد خلف الركب.
وتشكل اللامساواة في الدخل والثروة والفرص تهديدات جديدة لحقوق الإنسان على الصعيد العالمي، حيث تهدد مسألة التمتع بالحق في التنمية لأنها تضعف التنمية الاقتصادية وتقوض الحياة الديمقراطية والتماسك الاجتماعي.
وشددت الدراسة على أن الخطوة الأولى لمكافحة اللامساواة تتمثل في الاعتراف بأن المجتمعات لا يمكن أن تحقق كامل إمكاناتها إذا استبعدت قطاعات قائمة فيها من المشاركة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، أي الإسهام في التنمية والاستفادة منها.
وأشارت الدراسة إلى أنه بينما قد تنشأ أوجه اللامساواة المجتمعية عن تفاوتات قانونية صريحة في الوضع والاستحقاقات، مثل تلك التي تمس المهاجرين، فإنها يمكن أن تنتج أيضا عن السياسات التي تتجاهل احتياجات أشخاص معينين بطريقة تمييزية إزاء جماعات محددة لأسس النوع الاجتماعي أو العرق أو الأصل الإثني أو الإعاقة أو السن وغيرها.
وتظهر البيانات أن أكثر الفئات ضعفا وتهميشا من قبيل النساء والجماعات العرقية وكبار السن والشباب وذوي الإعاقة، وأعضاء مجتمع الميم الموَّسع، والعاملين في القطاع غير النظامي، وسكان الأرياف والمهاجرون، يتعرضون لأوجه اللامساواة المتقاطعة على الصعيدين الاقتصاد والاجتماعي، وكذلك للتهميش السياسي، وتعاني هذه الفئات من الحرمان نتيجة لمحدودية فرص الحصول على التعليم والعمل والتعرض للعنف ويؤدي الحرمان من الحماية الاجتماعية إلى تفاقم أوجه الحرمان هذه.
وعلى الرغم من تراجع اللامساواة على الصعيد العالمي في العقود التي سبقت تسعينيات القرن العشرين، فقد شهد العقد الماضي تفاقما غير مسبوق، حيث أدت جائحة "كوفيد-19" إلى مضاعفة أوجه اللامساواة التي كانت موجودة من قبل في جميع أنحاء العالم، وكانت أشد الفئات فقرا وضعفا هي الأكثر تضررا من هذا المرض ومن آثاره الاقتصادية العميقة.
وتشير التقديرات إلى أن الجائحة دفعت أكثر من 120 مليون شخص إلى براثن الفقر المدقع على الصعيد العالمي، ففي كثير من البلدان النامية كان العاملون في القطاع غير النظامي يشكلون أغلبية القوى العاملة، وهم كانوا الأكثر تأثرا بالاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن الجائحة.
التصدي لعدم المساواة عالمياً
ومن بين النتائج التي أسفرت عنها جائحة "كوفيد-19" أن المزيد من الناس حول العالم باتوا يفتقرون إلى القوت الأساسي بما في ذلك الغذاء والسكن والرعاية الصحية، وقد تبين أن التدخلات الحكومية والمنظمات الدولية من أجل التخفيف من حدة الصدمات الاقتصادية للجائحة كانت غير كافية ومحدودة التأثير، ولذلك شهدت بلدان كثيرة زيادة كبيرة في مستويات الفقر.
وتشير التقديرات إلى أن اللامساواة بين البلدان ارتفعت بمقدار 1.2% بين عامي 2017 و2021، وكان من المتوقع أن تنخفض بمقدار 2.6% عن المدة نفسها.
تأتي هذه الدراسة في أعقاب عدة دراسات وتقارير أشارت إلى تزايد أوجه اللامساواة على الصعيدين العالمي والوطني، بما في ذلك اتساع فجوة توزيع الدخل وتراجع فرص الحصول على الرعاية الصحية وتصاعد التجاذبات السياسية وارتفاع معدلات العمالة الناقصة والبطالة وانعدام الأمن الغذائي وتفاقم أزمة المناخ.
ولوحظ أن العالم كان يفتقر قبل الجائحة إلى سمة التكافؤ، وقد أصبح اليوم أكثر افتقارا إليها، وأنه في حال عدم قيام الحكومات والمجتمع الدولي باتخاذ إجراءات عاجلة، سرعان ما ستتحول الزيادة العميقة في حجم اللامساواة والفقر إلى حالة دائمة وستخسر الحكومات بذلك عقدا من الزمن في مكافحتها.
آثار متناقضة
أسفرت جائحة كوفيد-19 عن آثار اقتصادية واجتماعية متناقضة، حيث إنه حتى في ظل العواقب الاقتصادية المدمرة التي خلفتها الجائحة في جميع أنحاء العالم، فقد أنتج هذا الوضع مكاسب كبيرة في الثروة لمجموعة صغيرة من الناس، حيث اشتد تركيز الثروة بين الأثرياء، وكانت النتيجة تكثيف ظاهرة اللامساواة، التي كانت آخذة في الاتساع أصلا.
وتظهر البيانات أنه في العقود الثلاثة الماضية، استحوذت فئة الواحد في المئة الأكثر غنى من البشر على ما يقرب من 20 مرة من حجم الثروة لدى فئة الخمسين في المئة الدنيا منهم,
ويعزى ذلك إلى عدة اتجاهات في الاقتصاد السياسي العالمي وهي: العولمة المفرطة في زمن الليبرالية الجديدة والتحول نحو الأصولية السوقية، والتقدم التكنولوجي، والهجرة والتوسع الحضري السريع.
أهداف التنمية 2030
توفر خطة التنمية 2030 وأهدف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، إطارا شاملا للحدم من اللامساواة، ويرمي الهدف 10 للحد من اللامساواة داخل البلدان وفيما بينها من أجل تمكين الجميع وتعزيز إدماجهم، بصرف النظر عن وضعهم الاقتصادي أو الاجتماعي، بغية ضمان تكافؤ الفرص والحد من أوجه اللامساواة، بما في ذلك إزالة القوانين والسياسات والممارسات التمييزية وتعزيز السياسات والإجراءات الملائمة.
ويتطلب تحقيق هذه الأهداف أن تعتمد الدول السياسات ذات الصلة، بما في ذلك السياسات المالية وسياسات الأجور والحماية الاجتماعية، لتحقيق أكبر قدر من المساواة تدريجيا.
وأشارت الدراسة إلى أن الخطاب السائد فيما يتعلق بالهدف 10 والأهداف ذات الصلة يركز على المهمشين وعلى الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر وفي المقابل لا يولي سوى انتباه قليل لظاهرة كبار الأثرياء وأهل النفوذ في قمة توزيع الثروة.
ويتطلب التصدي لمشكلة الفقر المدقع النظر في توزيع الثروة داخل الدول وفيما بينها، وكذلك في الظروف التاريخية والحالية التي ركزت الثروة بين فئات ومناطق معينة من العالم، لذلك يجب أن تكون إعادة توزيع الثروة وعدم تركيزها جزءا لا يتجزأ من المحادثات بشأن الحد من الفقر واللامساواة.
خطتنا المشتركة
تشير الدراسة إلى أنه حان الوقت إلى تنفيذ دعوة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى عقد اجتماعي جديد الذي أشار عنه في تقريره المعنون "خطتنا المشتركة" للضغط بقوة من أجل النهوض بالتعاون العالمي وتغيير أوجه القصور والمسارات الكارثية التي تم التنبؤ بها.
وتستند "خطتنا المشتركة" إلى فرضية أن العالم يواجه تحديات مشتركة لا يمكن التصدي لها إلا عن طريق استجابة مترابطة، عبر تنشيط نظام تعددية الأطراف وأوجه التعاون الدولي لحماية كوكبنا.
نظم الحماية الاجتماعية
رغم أن الكثير من الدول قد اعتمدت نظم الحماية الاجتماعية فإن فعالية هذه النظم في الحد من الفقر وانعدام المساواة ليست تامة، ولا يزال هناك ثغرات كبرى في تصميم وتطبيق نظم الحماية الاجتماعية، وفقا للدراسة.
وبينما لجأت بلدان كثيرة إلى نظم الحماية الاجتماعية ظلت الفئات السكانية التي يجرى إغفالها عادة ضمن خطط الحماية الاجتماعية مهمشة، ويرجع ذلك إلى سوء تصميم وإدارة هذه النظم والنقص الشديد في الاستثمار، ويبرز ذلك بوضوح في إفريقيا وآسيا.
التضامن والتعاون الدوليان
على الرغم من أن عالمنا هو عالم الوفرة، فإن الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم ما زالوا يعيشون في ظروف مروعة من الحرمان، وعلى حد تعبير "المهاتما غاندي": "لدى العالم ما يكفيه لتلبية احتياجات الجميع، لكن ليس لديه ما يكفي لإرضاء جشع الجميع".
ويستلزم هذا الواقع تحقيق التضامن على الصعيد العالمي في التصدي للفقر وانعدام المساواة، إذ تتطلب التحديات العالمية الحالية نماذج إنمائية جديدة وإصلاح نظم الحوكمة على الصعيد العالم بناء على إعادة تصور نظام تعددية الأطراف.
وتتطلب معالجة أوجه المساواة المتفاقمة على الصعيد الدولي، إعادة تشكيل سياسات التعاون الدولي ونماذج الشراكة العالمية من منظور قائم على التضامن ومتمحور حول حقوق الإنسان.
المؤسسات الدولية
وطالبت الدراسة المؤسسات الدولية والمؤسسات المانحة بعدم مطالبة المقترضين بخفض الإنفاق العام على الحماية الاجتماعية بطريقة تؤدي إلى تدهور حقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في التنمية.
ويقر البنك الدولي بحاجة البلدان إلى إقامة نظم حماية اجتماعية شاملة من أجل التصدي للصدمات التي يرجح أن تصبح أكثر تواترا.
ويشمل ذلك تحسين الإنتاجية عن طريق توفير فرص العمل للفئات السكانية في سن العمل والاستثمار في الصحة العامة والتعليم.